فصل: تفسير الآيات رقم (8- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏فأخذه الله نكال الآخرة والأولى‏}‏ مفرعة عن الجُمل التي قبلها، أي كان ما ذكر من تكذيبه وعصيانه وكيده سبباً لأن أخذه الله، وهذا هو المقصود من سَوق القصة وهو مناط موعظة المشركين وإنذارهم، مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته‏.‏

وحقيقة الأخذ‏:‏ التناول باليد، ويستعار كثيراً للمقدرة والغلبة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 42‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فأخذهم أخذةً رابية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فلم يُفلت من عقاب الله‏.‏

والنكال‏:‏ اسم مصدر نكَّل به تنكيلاً وهو مِثل‏:‏ السَّلام، بمعنى التسليم‏.‏

ومعنى النكال‏:‏ إيقاع أذى شديد على الغير من التشهير بذلك بحيث يُنَكِّل، أي يَرُد ويَصْرِف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكَّل به، فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏66‏)‏‏.‏

وانتصب نكال‏}‏ على المفعولية المطلقة لفعل «أخذه» مبين لنوع الأخذ بنوعين منه لأن الأخذ يقع بأحوال كثيرة‏.‏

وإضافة ‏{‏نكال‏}‏ إلى ‏{‏الآخرة والأولى‏}‏ على معنى ‏(‏في‏)‏‏.‏

فالنكال في الأولى هو الغرق، والنكال في الآخرة هو عذاب جهنم‏.‏

وقد استُعمل النكال في حقيقته ومجازه لأن ما حصل لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكالٌ يوم القيامة‏.‏

وورود فعل «أخذه» بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مُراعىً فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيؤول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث‏.‏

وتقديم ‏{‏الآخرة‏}‏ على ‏{‏الأولى‏}‏ في الذكر لأنّ أمر الآخرة أعظم‏.‏

وجاء في آخر القصة بحوصلة وفذلكة لما تقدم فقال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لعبرة لمن يخشى‏}‏ فهو في معنى البيان لمضمون جملة ‏{‏هل أتاك حديث موسى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 15‏]‏ الآيات‏.‏

والإِشارة بقوله‏:‏ ‏{‏في ذلك‏}‏ إلى ‏{‏حديث موسى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والعِبرة‏:‏ الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها وعاقبة أمثالها، وهي مشتقة من العَبْر، وهو الانتقال من ضفة وادٍ أو نهر إلى ضفته الأخرى‏.‏

والمراد بالعبرة هنا الموعظة‏.‏

وتنوين ‏(‏عبرة‏)‏ للتعظيم لأن في هذه القصة مواعظ كثيرة من جهات هي مَثُلات للأعمال وعواقبها، ومراقبةِ الله وخشيته، وما يترتب على ذلك وعلى ضده من خير وشر في الدنيا والآخرة‏.‏

وجُعل ذلك عبرة لمن يخشى، أي من تُخالط نفسَه خشيةُ الله لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏‏.‏ والخشية تقدمت قريباً في قوله‏:‏ ‏{‏وأهديك إلى ربك فتخشى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه‏.‏

وفي القصة كلها تعريض بسادة قريش من أهل الكفر مثل أبي جهل بتنظيرهم بفرعون وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم فرعون ونادى فيهم بالكفر، وقد عَلِم المسلمون مضرب هذا المثل فكان أبو جهل يوصف عند المسلمين بفرعون هذه الأمة‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء لتنزيل السامعين الذين سيقت لهم القصة منزلة من ينكر ما فيها من المواعظ لعدم جريهم على الاعتبار والاتعاظ بما فيها من المواعظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏‏}‏

انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قوله‏:‏ ‏{‏أينا لمردودون في الحافرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10‏]‏ وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث‏.‏ وإذ قد فرضوا استحالة عود الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالوا‏:‏ ‏{‏أينا لمردودون‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10‏]‏ جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم‏:‏ ‏{‏أأنتم أشد خلقاً أم السماء‏}‏، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل‏:‏ آالإِنسان أشدّ خلقاً، وما هم إلا من الإِنسان، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفاً بضمائر الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فإذا هم بالساهرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10 14‏]‏، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏

فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم ب ‏{‏يقولون أينا‏}‏ إلى آخره، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإِيماء إليه عند قوله‏:‏ ‏{‏يقولون أينا لمردودون‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والاستفهام تقريري، والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإِقرار بأنّ خلق السماء أعظم من خلقهم، أي مِن خلق نوعهم وهو نوع الإِنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإِنسان مرة ثانية، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدَر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏، ذلك أن نظرهم العقلي غيَّمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه مُحالاً، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة‏.‏

و ‏{‏أشد‏}‏‏:‏ اسم تفضيل، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله ‏{‏أم السماء‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏أشد‏}‏ أصعب، و‏{‏خلقاً‏}‏ مصدر منتصب على التمييز لنسبة الأشدّية إليهم، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء، فالتمييز مُحوّل عن المبتدأ‏.‏

و ‏{‏السماء‏}‏ يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلاً للمعقول منزل المحسوس‏.‏

ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويَبدو فيها ضوء النهار وظلمةُ الليل، فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشاهد لهم‏.‏ وهذا أنسب بقوله‏:‏ ‏{‏وأغطَشَ ليلَها وأخرج ضحاها‏}‏ لعدم احتياجه إلى التأويل‏.‏

وجملة ‏{‏بناها‏}‏ يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان شدة خلق السماء، ويجوز أن تكون بدل اشتمال في قوله‏:‏ ‏{‏أم السماء‏}‏، لأنه في تقدير‏:‏ أم السماء أشد خلقاً‏.‏

وقد جعلت كلمة ‏{‏بناها‏}‏ فاصلة فيكون الوقف عندها ولا ضير في ذلك إذ لا لبس في المعنى لأن ‏{‏بناها‏}‏ جملة و‏{‏أم‏}‏ المعادلة لا يقع بعدها إلا اسم مفرد‏.‏

والبناء‏:‏ جعل بيت أو دار من حجارة، أو آجر أو أدم، أو أثواب من نسيج الشعر، مشدودة شُققه بعضها إلى بعض بغَرز أو خياطة ومقامة على دعائم، فما كان من ذلك بأدم يسمى قُبة وما كان بأثواب يسمى خيمة وخباء‏.‏

وبناء السماء‏:‏ خلقها، استعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع‏.‏

وجملة ‏{‏رفع سمكها فسواها‏}‏ مبنية لجملة ‏{‏بناها‏}‏ أو بدل اشتمال منها وسلك طريق الإِجمال ثم التفصيل لزيادة التصوير‏.‏

والسّمْك‏:‏ بفتح السين وسكون الميم‏:‏ الرَّفع في الفضاء كما اقتصر عليه الراغب سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها وهو مصدر سَمَكَ‏.‏

والرَّفع‏:‏ جعل جسم معتلياً وهو مرادف للسمْك فتعدية فعل ‏{‏رفع‏}‏ إلى «السمك» للمبالغة في الرفع، أي رَفَعَ رفْعَهَا أي جَعله رفيعاً، وهو من قبيل قولهم‏:‏ لَيل ألْيَل، وشِعر شاعر، وظِل ظليل‏.‏

والتسوية‏:‏ التعديل وعدم التفاوت، وهي جعل الأشياء سواء، أي متماثلة وأصلها أن تتعلق بأشياء وقد تتعلق باسم شيء واحد على معنى تعديل جهاته ونواحيه ومنه قوله هنا‏:‏ ‏{‏فسواها‏}‏، أي عَدَّل أجزاءها وذلك بأن أتقن صنعها فلا ترى فيها تفاوتاً‏.‏

والفاء في ‏{‏فسواها‏}‏ للتعقيب‏.‏

وتسوية السماء حصلت مع حصول سمكها، فالتعقيب فيه مثل التعقيب في قوله‏:‏ ‏{‏فنادى فقال أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وأغطش ليلها‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏بناها‏}‏ وليست معطوفة على ‏{‏رفع سمكها‏}‏ لأن إغطاش وإخراج الضحى ليس مما يبين به البناء‏.‏

والإِغطاش‏:‏ جعله غاطشاً، أي ظلاماً يقال‏:‏ غَطَش الليل من باب ضرب، أي أظلم‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه خَصَّ الليل بالظلمة وجعله ظلاماً، أي جعل ليلها ظلاماً، وهو قريب من قوله‏:‏ ‏{‏رفع سمكها‏}‏ من باب قولهم‏:‏ ليل ألْيَل‏.‏

وإخراج الضحى‏:‏ إبراز نور الضحى، وأصل الإِخراج النقل من مكان حاوٍ واستعير للإِظهار استعارة شائعة‏.‏

والضحى‏:‏ بروز ضوء الشمس بعد طلوعها وبعد احمرار شعاعها، فالضحى هو نور الشمس الخالص وسمي به وقته على تقدير مضاف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن يحشر الناس ضحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏ يدل لذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏، أي نورها الواضح‏.‏

وإنما جعل إظهار النور إخراجاً لأن النور طارئ بعد الظلمة، إذ الظلمة عَدَم وهو أسبق، والنور محتاج إلى السبب الذي ينيره‏.‏

وإضافة ‏(‏ليل‏)‏ و‏(‏ضحى‏)‏ إلى ضمير ‏{‏السماء‏}‏ إن كان السماء الدنيا فلأنهما يلوحان للناس في جوّ السماء فيلوح الضحى أشعة منتشرة من السماء صادرة من جهة مطلع الشمس فتقع الأشعة على وجه الأرض ثم إذا انحجبت الشمس بدورة الأرض في اليوم والليلة أخذ الظلام يحلّ محلّ ما يتقلص من شعاع الشمس في الأفق إلى أن يصير ليلاً حالكاً محيطاً بقسم من الكرة الأرضية‏.‏

وإن كان السماء جنساً للسماوات فإضافة ليل وضحى إلى السماوات لأنهما يلوحان في جهاتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏‏}‏

وانتقل الكلام من الاستدلال بخلق السماء إلى الاستدلال بخلق الأرض لأن الأرض أقرب إلى مشاهدتهم وما يوجد على الأرض أقرب إلى علمهم بالتفصيل أو الإِجمال القريب من التفصيل‏.‏

ولأجل الاهتمام بدلالة خلق الأرض وما تحتوي عليه قُدم اسم ‏{‏الأرض‏}‏ على فعله وفاعِله فانتصب على طريقة الاشتغال، والاشتغال يتضمن تأكيداً باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدال عليه الفعلُ الظاهر المشتغل بضمير الاسم المقدم‏.‏

والدَّحْو والدَّحْيُ يقال‏:‏ دحَوْت ودحيت‏.‏ واقتصر الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو‏:‏ البسط والمدّ بتسوية‏.‏

والمعنى‏:‏ خلقها مدحوَّة، أي مبسوطة مسوّاة‏.‏

والإِشارة من قوله‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ إلى ما يفهم من ‏{‏بناها رفع سمكها فسواها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27، 28‏]‏، أي بعد خلق السماء خلق الأرض مدحوَّة‏.‏

والبعدية ظاهرها‏:‏ تأخر زمان حصول الفعل، وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول قتادة ومقاتل والسدّي، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح‏.‏

ويجوز أن تكون البعدية مجازاً في نزول رتبة ما أضيف إليه بعد‏}‏ عن رتبة ما ذُكر قبله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عتل بعد ذلك زنيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏أخرج منها ماءها ومرعاها‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏دحاها‏}‏ لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها‏.‏

ولا يصح جعل جملة ‏{‏أخرج منها ماءها‏}‏ إلى آخرها بياناً لجملة ‏{‏دحاها‏}‏ لاختلاف معنى الفعلين‏.‏

والمرعى‏:‏ مَفْعَل من رَعَى يرعَى، وهو هنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي أخرج منها ما يُرْعَى‏.‏

والرعي‏:‏ حقيقته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل‏.‏

فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات فيعرف منه أن اللطف بالإِنسان أحرى بدلالة فحوى الخطاب، والقرينةُ على الاكتفاء قوله بعده ‏{‏متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتاً للناس وللحيوان حتى ما تُعالَج به الأطعمة من حطب للطبخ فإنه مما تنبت الأرض، وحتى الملح فإنه من الماء الذي على الأرض‏.‏

ونَصب ‏{‏والجبال‏}‏ يجوز أن يكون على طريقة نصب ‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏ ويجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏ماءها ومرعاها‏}‏ ويكون المعنى‏:‏ وأخرج منها جبالها، فتكون ‏(‏ال‏)‏ عوضاً عن المضاف إليه مثل ‏{‏فإن الجنة هي المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 41‏]‏ أي مأوى من خافَ مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض‏.‏

وإرساء الجبال‏:‏ إِثباتُها في الأرض، ويقال‏:‏ رست السفينة، إذا شُدّت إلى الشاطئ فوقفت على الأَنْجَرِ، ويوصف الجبل بالرسوّ حقيقة كما في «الأساس»، قال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم‏:‏

رسَا أصلُه فوق الثرى وسمَا به *** إلى النجم فَرع لا يُنال طويل

وإثبات الجبال‏:‏ هو رسوخها بتغلْغُل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولولا ذلك لزعزعتها الرياح، وخُلقت تتخلّلها الصخور والأشجار ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جُعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة‏.‏

ومن معنى إرسائها‏:‏ أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏(‏المتاع‏)‏ يطلق على ما ينتفع به مدة، ففيه معنى التأجيل، وتقدم عند قوله ‏{‏وأمتعتكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏102‏)‏، وهو هنا اسم مصدر متَّع، أي إعطاء للانتفاع زماناً، وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏24‏)‏‏.‏

وانتصب ‏{‏متاعاً‏}‏ على النيابة عن الفعل‏.‏ والتقدير‏:‏ متَّعْناكم متاعاً‏.‏

ولام ‏{‏لكم ولأنعامكم‏}‏ لام التقوية لأن المصدر فرع في العمل عن الفعل، وهو راجع إلى خلق الأرض والجبال، وذلك في الأرض ظاهر، وأما الجبال فلأنها معتصمهم من عدوّهم، وفيها مراعي أنعامهم تكون في الجبال مأمونة من الغارة عليها على غرة‏.‏ وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال لإِثارة شكرهم حق النعمة بأن يعبدوا المنعِم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏ إلى ‏{‏ولأنعامكم‏}‏ محسّن الجمع ثم التقسيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 41‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏ وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏أأنتم أشد خلقاً أم السماء‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27‏]‏ الآيات، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته‏.‏ وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه، فلذلك فرع على دليل إثبات البعث تذكير بالجزاءين، وإرشاد إلى النجدين‏.‏

وإذ قد قُدّم قبل الاستدلال تحذيرٌ إجماليّ بقوله‏:‏ ‏{‏يوم ترجف الراجفة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 6‏]‏ الآية كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده فلذلك عبر عن البعث ابتداء بالراجفة لأنها مبدؤه، ثم بالزجرة، وأخيراً بالطامة الكبرى لما في هذين الوصفين من معنى يشمل الراجفة وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره‏.‏

ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوعه عقب التذكير بخلق الأرض، والامتنان بما هَيّأ منها للإِنسان متاعاً به، للإِشارة إلى أن ذلك ينتهي عندما يحين يوم البعث والجزاء‏.‏

ويجوز أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاءت الطامة الكبرى‏}‏ مفرعاً على قوله‏:‏ ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13، 14‏]‏ فإن الطامة هي الزجرة‏.‏

ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله‏:‏ ‏{‏فأما من طغى‏}‏ الخ إذ لا يلتئم تفريع الشيء على نفسه‏.‏

‏(‏وإذا‏)‏ ظرف للمستقبل فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صُرف إلى الاستقبال، وإنما يُؤتى بعد ‏(‏إذا‏)‏ بفعل الماضي لزيادة تحقيق ما يفيده ‏(‏إذا‏)‏ من تحقق الوقوع‏.‏

والمجيءُ‏:‏ هنا مجاز في الحصول والوقوع لأن الشيء الموقّت المؤجل بأجل يشبه شخصاً سائراً إلى غاية، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنه السائرُ إلى، إذا بلغ المكان المقصود‏.‏

والطامة‏:‏ الحادثة، أو الوقعة التي تَطِمُّ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها، مأخوذ من طَمَّ الماء، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت ب ‏{‏الكبرى‏}‏ فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن هذه الحادثة من الأهوال‏.‏

والمراد بالطامة الكبرى‏:‏ القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن مثل الصاخّة والقارعة والراجفة ووصفت بالكبرى‏.‏

و ‏{‏يوم يتذكر الإنسان ما سعى‏}‏ بدل من جملة ‏{‏إذا جاءت الطامة الكبرى‏}‏ بدل اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب‏.‏

وتَذَكُّر الإِنسان ما سعاه‏:‏ أن يوقَف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكَّره‏.‏

والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة‏.‏

والمعنى‏:‏ يوم يُذَكَّر الإِنسان فيتذكر، أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره، وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى‏:‏

‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وتبريز الجحيم‏:‏ إظهارها لأهلها‏.‏ وجيء بالفعل المضاعف لإِفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإِرهاب‏.‏

والجحيم‏:‏ جهنم‏.‏ ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال، أو هو بتأويل النار، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة‏.‏

وبنى فعل ‏{‏بُرزت‏}‏ للمجهول لعدم الغرض ببيان مُبَرّزها إذ الموعظة في الإِعلام بوقوع إِبرازها يومئذ‏.‏

و ‏{‏لمن يرى‏}‏، أي لكل راء، ففعلُ ‏{‏يرى‏}‏ منزّل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر، كقول البحتري‏:‏

أنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَع وَاعِ

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من طغى‏}‏ رابطة لجواب ‏(‏إذا‏)‏ لأن جملة ‏{‏من طغى‏}‏ إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به ‏(‏إذا‏)‏ فلم يَكن بين ‏(‏إذا‏)‏ وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تُجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ، وأما في المعنى فيعلم أن ‏(‏إذا‏)‏ ظرف يتعلق بمعنى الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر‏.‏

و ‏(‏أمَّا‏)‏ حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى‏:‏ مَهما يكن شيء‏.‏

والطغيان تقدم معناه آنفاً‏.‏ والمراد هنا‏:‏ طغى على أمر الله، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأما من خاف مقام ربه‏}‏‏.‏

وقُدّم ذكر الطغيان على إيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسبباً عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي‏.‏

والإِيثار‏:‏ تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما‏.‏

ويعدّى فعل الإِيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف ‏(‏على‏)‏ قال تعالى حكاية ‏{‏لقد آثرك الله علينا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 91‏]‏، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة‏.‏

وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء‏.‏

والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها، أي التي لا تُشاركُها فيها حظوظُ الآخرة، فالكلام على حذف مضاف، تقديره‏:‏ نعيم الحياة‏.‏

ويفهم من فعل الإِيثار أن معه نبْذاً لنعيم الآخرة‏.‏ ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة‏.‏

وملاك هذا الإِيثار هو الطغيان على أمر الله، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكباراً عن أن يكونوا تبعاً للغير فتضيعَ سيادتهم‏.‏

وقد زاد هذا المفادَ بياناً قوله بعده‏:‏ ‏{‏وأما من خاف مقام ربه‏}‏ الآية‏.‏

وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذُ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم، وهو مقام كثير من عِباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون‏:‏ ‏{‏وابْتَعِ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏من خاف مقام ربه‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏من طغى‏}‏ لأن الخوف ضد الطغيان وقوله‏:‏ ‏{‏نهى النفس عن الهوى‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وآثر الحياة الدنيا‏}‏‏.‏

ونهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى، فجعلت نفس الإِنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد، يقولون‏:‏ قالت له نفسه كذا فعصاها، ويقال‏:‏ نهى قَلْبَه، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذيْنة‏:‏

وإذا وجَدْت لها وسَاوس سَلْوة *** شفَع الفُؤاد إلى الضمير فسلها

والمراد ب ‏{‏الهوى‏}‏ ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفعَ الكامل‏.‏ وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللَّه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏ أن ‏{‏بغير هدى‏}‏ حال فمؤكدة ليست تقييداً إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى‏.‏

وتعريف ‏{‏الهوى‏}‏ تعريف الجنس‏.‏

والتعريف في ‏{‏المأوى‏}‏ الأول والثاني تعريف العهد، أي مأوَى من طغى، ومأوى من خَاف مقام ربه، وهو تعريف مُغْننٍ عن ذكر ما يضاف إليه ‏{‏مأوى‏}‏ ومثله شائع في الكلام كما في قوله‏:‏ غُضَّ الطرف، أي الطرف المعهود من الأمر، أي غض طرفك‏.‏ وقوله‏:‏ واملأ السمعَ، أي سمعك وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 46‏]‏، أي على أعراف الحجاب، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة البصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضاً عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها، ويأبى ذلك البصريون، وهو خلاف ضئيل، إذ المعنى متفق عليه‏.‏

والمأوى‏:‏ اسم مكان من أوَى، إذا رجع، فالمراد به‏:‏ المقر والمسكن لأن المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثم يرجع إلى مسكنه‏.‏

و ‏{‏مقام ربه‏}‏ مجاز عن الجلال والمهابة وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه، مثل ألفاظ‏:‏ جناب، وكَنَفَ، وذَرَى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ذلك لمن خاف مقامي‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 14‏]‏ وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يَشمل التعلق بالمفعول‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يوم يتذكر الإنسان ما سعى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فإن الجنة هي المأوى‏}‏ محسن الجمع مع التقسيم‏.‏

وتعريف ‏{‏النفس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ونهى النفس‏}‏ هو مثل التعريف في ‏{‏المأوى‏}‏‏.‏

وفي تعريف «أصحاب الجحيم» و«أصحاب الجنة» بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين عِلتان في استحقاق ذلك المأوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏‏}‏

استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وكان سؤالهم استهزاء واستخفافاً لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان صادقاً لحَمِي غضب الله مُرسِله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجَّل بالانتقام طيشاً وحنقاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏لو يؤاخذهم بما كسبوا لعَجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 58‏]‏‏.‏

فلا جرم لما قُضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال، وعرض بعقاب الذين استحقوا بها في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاءت الطامة الكبرى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 34‏]‏، كان ذلك مثاراً لسؤالهم أن يقولوا‏:‏ هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم‏؟‏ فكان الحال مقتضياً هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجواباً عن سابق الكلام‏.‏

فضمير «يسألون» عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالوا‏:‏ ‏{‏أينا لمردودون في الحافرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره‏.‏

والساعة‏:‏ هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإِضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين ‏{‏الطامة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 34‏]‏ و‏{‏الساعة‏}‏‏.‏

و ‏{‏أيان مرساها‏}‏ جملة مبينة للسؤال‏.‏

و ‏{‏أيّان‏}‏ اسم يستفهم به عن تعيين الوقت‏.‏

والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كنايةً وهو أيضاً كناية عن الاستحالة و‏{‏مرساها‏}‏ مصدر ميمي لفعل أرسى، والإِرساء‏:‏ جعل السفينة عند الشاطئ لقصد النزول منها‏.‏ واستعير الإِرساء للوقوع والحصول تشبيهاً للأمر المغيَّب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يُعرف وصولها إلا إذا رسَتْ، وعليه ف ‏{‏أيّان‏}‏ ترشيح للاستعارة، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيم أنت من ذكراها‏}‏ واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك، وهو مضمون قوله‏:‏ ‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏‏.‏ وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم، ونظيره ما روي في الصحيح أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال له‏:‏ ‏"‏ ماذا أعْدَدْتَ لها‏؟‏ ‏"‏ أي كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعداداً ليوم الساعة‏.‏

والخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين فلذلك اعتبر اعتبارَ جواب عن كلامهم وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فيم‏}‏ اسم استفهام بمعنى‏:‏ أي شيء‏؟‏ مستعملة في التعجيب من سؤال السائلين عنها ثم توبيخهم‏.‏ و‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية بجعل المشركين في إحفائهم بالسؤال عن وقت الساعة كأنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم محوطاً بذكر وقت الساعة، أي متلبساً به تلبس العالم بالمعلوم فدُل على ذلك بحرف الظرفية على طريقة الاستعارة في الحرف‏.‏

وحُذف ألف ‏(‏ما‏)‏ لوقوعها بعد حرف الجر مثل ‏{‏عم يتساءلون‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏]‏‏.‏ و‏{‏فيم‏}‏ خبر مقدم و‏{‏أنت‏}‏ مبتدأ، و‏{‏من ذكراها‏}‏ إما متعلق بالاستقرار الذي في الخبر أو هو حال من المبتدأ‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏‏:‏ إما مّبينة للإِبهام الذي في ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية، أي في شيء هو ذكراها، أي في شيء هو أن تَذْكرها، أي لستَ متصدياً لشيء هو ذكرى الساعة، وإما صفةٌ للمبتدأ فهي اتصالية وهي ضرب من الابتدائية ابتداؤها مجازي، أي لست في شيء يتصل بذكرى الساعة ويحوم حوله، أي ما أنت في شيء هو ذكر وقت الساعة، وعلى الثاني‏:‏ ما أنت في صلة مع ذكر الساعة، أي لا ملابسة بينك وبين تعيين وقتها‏.‏

وتقديم ‏{‏فيم‏}‏ على المبتدأ للاهتمام به ليفيد أن مضمون الخبر هو مناط الإِنكار بخلاف ما لو قيل‏:‏ أأنت في شيء من ذكراها‏؟‏

والذكرى‏:‏ اسم مصدر الذِّكر، والمراد به هنا الذكر اللساني‏.‏

وجملة ‏{‏إلى ربك منتهاها‏}‏ في موقع العلة للإِنكار الذي اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فيم أنت من ذكراها‏}‏ ولذلك فصلت، وفي الكلام تقدير مضاف، والمعنى‏:‏ إلى ربك عِلم منتهاها‏.‏

وتقديم المجرور على المبتدأ في قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك منتهاها‏}‏ لإِفادة القصر، أي لا إليك، وهذا قصر صفة على موصوف‏.‏

والمنتهى‏:‏ أصله مكان انتهاء السير، ثم أطلق على المصير لأن المصير لازم للانتهاء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأن إلى ربك المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏ ثم توسّع فيه فأطلق على العلم، أي لا يعلمها إلا الله، فقوله‏:‏ ‏{‏منتهاها‏}‏ هو في المعنى على حذف مضاف، أي علم وقت حصولها كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أيان مرساها‏}‏‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏منتهاها‏}‏ بمعنى بلوغ خبرها كما يقال‏:‏ أنهيت إلى فلان حادثة كذا، وانتهى إليَّ نبأ كذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ استئناف بياني ناشئ عن جملة ‏{‏فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها‏}‏ وهو أن يسأل السامع عن وجه إكثار النبي صلى الله عليه وسلم ذِكرها وأنها قريبة، فأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم حظه التحذير من بَغْتَتِها، وليس حظه الإِعلام بتعيين وقتها، على أن المشركين قد اتخذوا إعراض القرآن عن تعيين وقتها حجة لهم على إحالتها لأنهم لجهلهم بالحقائق يحسبون أن من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الغيب ولذلك تكرر في القرآن تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وأفادت ‏{‏إنما‏}‏ قصر المخاطب على صفة الإنذار، أي تخصيصه بحال الإِنذار وهو قصر موصوف على صفة فهو قصر إضافي، أي بالنسبة إلى ما اعتقدوه فيه بما دل عليه إلحافهم في السؤال من كونه مطلعاً على الغيب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منذر من يخشاها‏}‏ قرأه الجمهور بإضافة ‏{‏منذر‏}‏ إلى ‏{‏من يخشاها‏}‏‏.‏ وقرأه أبو جعفر بتنوين ‏{‏منذر‏}‏ على أن ‏{‏من يخشاها‏}‏ مفعوله‏.‏

وفي إضافة ‏{‏منذر‏}‏ إلى ‏{‏من يخشاها‏}‏ أو نصبِه به إيجازُ حذف تقديره‏:‏ منذرها فينتذر من يخشاها، وقرينة ذلك حاليَّة للعلم المتواتر من القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينذر جميع الناس لا يخص قوماً دون آخرين فإن آيات الدعوة من القرآن ومقامات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا عامة‏.‏ ولا يُعرف من يَخشى الساعة إلا بعد أن يؤمِن المُؤمن ولو عرف أحد بعينه أنه لا يؤمن أبداً لما وجهت إليه الدعوة، فتعين أن المراد‏:‏ أنه لا ينتفع بالإِنذار إلا من يخشى الساعة ومن عداه تمُرّ الدعوة بسمعه فلا يَأبَهُ بها، فكان ذكر ‏{‏من يخشاها‏}‏ تنويهاً بشأن المؤمنين وإعلاناً لمزيتهم وتحقيراً للذين بقُوا على الكفر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏

وعلى هذا القانون يفهم لماذا وجه الخطاب بالإِيمان إلى ناس قد علم الله أنهم لا يؤمنون، وكَشف الواقعُ على أنهم هلكوا ولم يؤمنوا مثل صناديد قريش أصحاب القليب قليببِ بدر مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة، ولماذا وُجه الخطاب بطلب التقوى ممن علم الله أنه لا يتقي مثل دُعّار العرب الذين أسلموا ولم يتركوا العدوان والفواحش، ومثل أهل الردة الذين لم يكفروا منهم ولكنهم أصرّوا على منع الزكاة وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، فمن مات منهم في ذلك فهو ممن لم يتق الله لأن ما في علم الله لا يبلغ الناس إلى علمه ولا تظهر نهايته إلا بعد الموت وهي المسألة المعروفة عند المتكلمين من أصحابنا بمسألة المُوافاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

جواب عما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏يسئلونك على الساعة أيان مرساها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42‏]‏ باعتبار ظاهر حال السؤال من طلب المعرفة بوقت حلول الساعة واستبطاء وقوعها الذي يرمون به إلى تكذيب وقوعها، فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي إن طال تأخر حصولها فإنها واقعة وأنهم يوم وقوعها كأنه ما لبثوا في انتظار إلا بعض يوم‏.‏

والعشية‏:‏ معبر بها عن مدة يسيرة من زمان طويل على طريقة التشبيه، وهو مستفاد من ‏{‏كأنَّهم‏}‏، فهو تشبيه حالهم بحالة من لم يلبث إلا عشية، وهذا التشبيه مقصود منه تقريب معنى المشبَّه من المتعارف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو ضحاها‏}‏ تخيير في التشبيه على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏19‏)‏‏.‏ وفي هذا العطف زيادة في تقليل المدة لأن حصة الضحى أقصر من حصة العشية‏.‏

وإضافة ‏(‏ضحى‏)‏ إلى ضمير ‏(‏العشية‏)‏ جرى على استعمال عربي شائع في كلامهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ أضيف الضحى إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب يقولون‏:‏ آتيك الغداة أو عشيتَها، وآتيك العشية أو غداتَها، وأنشدني بعض بني عُقيل‏:‏

نَحن صَبَّحنا عامراً في دَارها *** جُرْداً تَعَادَى طَرَفَيْ نَهَارِها

عشيَّة الهِلال أو سِرارها ***

أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية‏:‏ فهو أشد من‏:‏ آتيك الغداة أو عشيتها ا ه‏.‏

ومسوغُ الإِضافة أن الضحى أسبق من العشية إذ لا تقع عشية إلا بعد مرور ضحى، فصار ضحى ذلك اليوم يعرَّف بالإِضافة إلى عشية اليوم لأن العشية أقرب إلى علم الناس لأنهم يكونون في العشية بعد أن كانوا في الضحى، فالعشية أقرب والضحى أسبق‏.‏

وفي هذه الإِضافة أيضاً رعاية على الفواصل التي هي على حرف الهاء المفتوحة من ‏{‏أيان مرساها‏}‏‏.‏

وبانتهاء هاته السورة انتهت سور طوال المفصل التي مبدؤها سورة الحجرات‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏‏}‏

افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهامها قولُه‏:‏ ‏{‏فأنت له تصدى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 6‏]‏ وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومَن استغنى‏.‏

وهذا الحادث سبب نزول هذه الآيات من أولها إلى قوله‏:‏ ‏{‏بررة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وهو ما رواه مالك في «الموطأ» مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال‏:‏ أنزلت ‏{‏عبس وتولى‏}‏ في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول‏:‏ يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ‏(‏أي عن ابن أم مكتوم‏)‏ ويُقبل على الآخر، ويقول‏:‏ يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأساً فيقول‏:‏ «لا والدِّماء ما أرى بما تقول يأساً»، فأنزلت‏:‏ ‏{‏عبس وتولى‏}‏‏.‏

ورواه الترمذي مسنداً عن عروة عن عائشة بقريب من هذا، وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

وروى الطبري عن ابن عباس‏:‏ «أن ابن أم مكتوم جاء يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن ومثله عن قتادة‏.‏

وقال الواحدي وغيره‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبَة بن ربيعة وأبا جهل، والعباسَ بن عبد المطلب، وأبيَّ بن خلف، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يَعرض عليهم الإِسلام‏.‏ 6

ولا خلاف في أن المراد ب ‏{‏الأعمى‏}‏ هو ابن أم مكتوم‏.‏ قيل‏:‏ اسمه عبد الله وقيل‏:‏ اسمه عَمْرو، وهو الذي اعتمده في «الإِصابة»، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش‏.‏

وأمه عاتكة، وكنيت أمَّ مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى عنه بمكتوم‏.‏ ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتاً من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي‏.‏ وهذا كما نسب عَمْرو بن المنذر ملكُ الحِيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكِل المُرار زيادة في تشريفه بوراثة الملك من قبل أبيه وأمه‏.‏

ووقع في «الكشاف»‏:‏ أن أم مكتوم هي أم أبيه‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ إنه وهَم، وأسلم قديماً وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد سنة أربع عشرة أو خمس عشرة‏.‏

وفيه نزلت هذه السورة وآيةُ ‏{‏غيرَ أُولي الضرر‏}‏ من سورة النساء ‏(‏95‏)‏‏.‏

وكان النبي يحبّه ويُكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة، وكان مؤذِّنَ النبي هو وبلال بن رباح‏.‏

والعُبوسُ بضم العين‏:‏ تقطيب الوجه وإظهار الغضب‏.‏

ويقال‏:‏ رجل عَبوس بفتح العين، أي متقطب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وعبس من باب ضرَب‏.‏

والتولي‏:‏ أصله تحوّل الذات عن مكانها، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقَى إليه أو جليس يحلّ عنده، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإِقبال على الزائر‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏تولّى‏}‏ لظهور أنه تولَ عن الذي مجيئه كان سبب التولي‏.‏

وعبر عن ابن أم مكتوم ب ‏{‏الأعمى‏}‏ ترقيقاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنه لما كان صاحب ضَرارة فهو أجدر بالعناية به، لأن مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره‏.‏

و ‏{‏أن جاءه الأعمى‏}‏ مجرور بلام الجر محذوففٍ مع ‏{‏أن‏}‏ وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي ‏{‏عبس وتولى‏}‏ على طريقة التنازع‏.‏

والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود‏.‏

وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولَها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثاً على أن يترقب المعنيَّ من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب، وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجاً وذلك أهون وقعاً، ونظير هذا قوله‏:‏ ‏{‏عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

قال عياض‏:‏ قال عون بن عبد الله والسمرقندي‏:‏ أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه ا ه‏.‏ فكذلك توجيه العتاب إليه مسنداً إلى ضمير الغائب ثم جيء بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة‏.‏

ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات‏.‏

ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا من ذلك المجلس أن يُسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعاً لسلك الحديث وجعل يقول للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله استدنني، علمني، أرشدني، ويناديه ويكثر النداء والإِلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون، وفي رواية الطبري أنه استقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن‏.‏

وجملة ‏{‏وما يدريك‏}‏ الخ في موضع الحال‏.‏

‏(‏وما يدريك‏)‏ مركبة من ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية وفعل الدّراية المقترن بهمزة التعدية، أي ما يجعلك دارياً أي عالماً‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏ما أدراك‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ومنه ‏{‏وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏

في سورة الأنعام ‏(‏109‏)‏‏.‏

والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو ‏{‏ما أدراك ما القارعة‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 3‏]‏ ونحو قوله هنا‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعله يزكى‏}‏‏.‏

والمعنى أيُّ شيء يجعلك دارياً‏.‏ وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل‏.‏

قال الراغب‏:‏ ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده ا ه‏.‏ قلت‏:‏ فقد يُبينه تفصيلٌ مثل قوله هنا‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعله يزكى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 2 3‏]‏ وقد يقع بعده ما فيه تهويل نحو‏:‏ ‏{‏وما أدراك ماهيه‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 10‏]‏ أي ما يعلمك حقيقتها وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏ أي أيُّ شيء أعلمك جواب‏:‏ ‏{‏ما الحاقة‏}‏‏.‏

وفعل‏:‏ ‏{‏يدريك‏}‏ معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف ‏(‏لعلّ‏)‏ بعده فإن ‏(‏لعل‏)‏ من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي في «التذكرة» إلحاقاً للترجي بالاستفهام في أنه طلب‏.‏ فلما علق فعل ‏{‏يدريك‏}‏ عن العمل صار غير متعدَ إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعدياً إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيه فصار ما بعده جملة مستأنفة‏.‏

والتذكر‏:‏ حصول أثر التذكير، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو مشتق من الذُّكر بضم الذال‏.‏

والمعنى‏:‏ انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً، أي إذا أقبلت عليه بالإِرشاد زاد الإِيمان رسوخاً في نفسه وفَعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكية، فالمراد ب «يتزكى» تزكية زائدة على تزكية الإِيمان بالتملّي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة ‏"‏ إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالاً في درجات الإِيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة‏.‏

و ‏{‏يزكّى‏}‏ أصله‏:‏ يتزكى، قلبت التاء زاياً لتقارب مخرجيهما قصداً ليتأتى الإِدغام وكذلك فُعِل في ‏{‏يذّكر‏}‏ من الإِدغام‏.‏

والتزكّي‏:‏ مطاوع زكَّاه، أي يحصل أثر التزكية في نفسه‏.‏ وتقدم في سورة النازعات‏.‏

وجملة ‏{‏أو يذَّكَّر‏}‏ عطف على ‏{‏يزَّكَّى‏}‏، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإِرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لِما كان في غفلة عنه‏.‏

والذكرى‏:‏ اسم مصدر التذكير‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتنفعه الذكرى‏}‏ اكتفاء عن أن يقول‏:‏ فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له‏.‏

والذكرى‏:‏ هو القرآن لأنّه يذكّر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو إلا ذكر للعالمين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 52‏]‏ فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فتنفعُه‏}‏ بالرفع عطفاً على «يذّكّر»‏.‏ وقرأه عاصم بالنصب في جواب‏:‏ ‏{‏لعله يزكى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على ‏{‏أمَّا‏}‏ في سورة النازعات أنها بمعنى‏:‏ مهما يكن شيء، فقوله‏:‏ ‏{‏أما من استغنى‏}‏ تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدّى، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له، والمقصود‏:‏ أنت تحرص على التصدي له، فجعل مضمون الجواب وهو التصدّي له معلقاً على وجود من استغنى وملازماً له ملازمة التعليققِ الشرطي على طريقة المبالغة‏.‏

والاستغناء‏:‏ عدّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدل عليه السياق قول، أو فعل أو علم، فالسين والتاء للحسبان، أي حسب نفسه غنياً، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة‏.‏

فالمراد ب ‏{‏من استغنى‏}‏ هنا‏:‏ مَن عدّ نفسه غنياً عَن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له‏:‏ «هل ترى بما أقول بَأساً، بقوله‏:‏ لا والدماء‏.‏‏.‏‏.‏» كناية عن أنه لا بأس به يريد ولكني غيرُ محتاج إليه‏.‏

وليس المراد ب ‏{‏من استغنى‏}‏ من استغنى بالمال إذ ليس المقام في إيثار صاحب مال على فقير‏.‏

وهذا الذي تصدَّى النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته وعرض القرآن عليه هو على أشهر الأقوال المروية عن سلف المفسرين الوليد بن المغيرة المخزومي كما تقدم‏.‏

والإِتيان بضمير المخاطب مُظهراً قبلَ المسند الفعلي دون اسْتِتاره في الفعل يجوز أن يكون للتقوي كأنه قيل‏:‏ تتصدى له تصدياً، فمناط العتاب هو التصدي القوي‏.‏

ويجوز أن يكون مفيداً للاختصاص، أي فأنت لا غيرُك تَتَصدّى له، أي ذلك التصدّي لا يليق بك‏.‏ وهذا قريب من قولهم‏:‏ مثلُك لا يبخل، أي لو تصدّى له غيرك لكان هَوناً، فأما أنت فلا يتَصدى مثلك لمثله فمناط العتاب هو أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في جليل قدره‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الصاد على إدغام إحدى التاءين في الصاد‏.‏ والباقون بالفتح وتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين‏.‏

والتصدّي‏:‏ التعرض، أطلق هنا على الإِقبال الشديد مجازاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏‏}‏

جملة معترضة بين جملة ‏{‏أما من استغنى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 5‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وأما من جاءك يسعى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 8‏]‏، والواو اعتراضية‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ نافية و‏{‏عليك‏}‏ خبر مقدم‏.‏ والمبتدأ ‏{‏ألا يزكى‏}‏، والمعنى‏:‏ عدم تزكّيه ليس محمولاً عليك، أي لست مؤاخذاً بعدم اهتدائه حتى تزيد من الحرص على ترغيبه في الإِيمان ما لم يكلفك الله به‏.‏ وهذا رفق من الله برسوله صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏ وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أما من استغنى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 5‏]‏ اقتضى ذكره قصد المقابلة مع المعطوف عليها مقابلة الضدين إتماماً للتقسيم‏.‏ والمراد‏:‏ بمن جاء يسعى‏:‏ هو ابن أم مكتوم، فحصل بمضمون هذه الجملة تأكيد لمضمون ‏{‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 1 2‏]‏‏.‏

والسعي‏:‏ شدة المشي، كُنِي به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء المُمْتَعِض من التصدّي له‏.‏

وجملة ‏{‏وهو يخشى‏}‏ في موضع الحال، وحذف مفعول ‏{‏يخشى‏}‏ لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه جاء طلباً للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد‏.‏ واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد‏.‏

والقول في ‏{‏فأنت عنه تلهى‏}‏ كالقول في‏:‏ ‏{‏فأنت له تصدى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والعبرة من هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيئه صلى الله عليه وسلم علماً عظيماً من الحكمة النبوية، ورفعَ درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاةِ الأمم، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحيَ صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم، وأنّ ليس الإِصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبهُ قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القَويّ على الضعيف مِما فيه صفة الصلاح، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً بل الأمر يختلف باختلاف الناس‏.‏ وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة‏:‏ إن المجتهد إذا لاح له دليل‏:‏ «يبحث عن المعارض» والقاعدة القائلة‏:‏ «إن لله تعالى حكماً قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد»‏.‏

فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوْره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد له فيه وحي، فبحثُه عن الحكم أوسع مدىً من مدى أبحاث عموم المجتهدين، وتنقيبه على المعارض أعمق غَوراً من تناوشهم، لئلا يفوت سيدَ المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفاً، ما لم يكن إعماله يُبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يُوحَ إليه فيه‏.‏

فالتزكية الحق هي المِحْور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكَ بالإِيمان‏.‏

وفي حاليهما حالان آخران سرُّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئه صلى الله عليه وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإِيمان حين لاح من لِين نفْسه لسماع القرآن ما أطْمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد اقتربَ من الإِيمان فمحَّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإِيمان أعظم غرض بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله، فالاشتغال به يَبْدُو أهمّ وأرجحَ من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم

غير أن وراء ذلك الظاهر حالاً آخر كامناً عَلِمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوححِ لرسوله صلى الله عليه وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئاً‏.‏ وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبيء صلى الله عليه وسلم بإعانة الله رجحانَ حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغُر ما أظهره من اللين مصانعةً أو حياءً من المكابرة، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته‏.‏ وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص، بيد أن الكافر صاحبَ هذه القضية تنبئ دخيلتُه بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله، وبذلك تَعطل الانتفاعُ بها عموماً وخصوصاً وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعاً لخاصة نفسه ولا يخلو من عَود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها‏.‏

وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية، وليس الاهتداء مقتصراً على حصول الإِيمان مراتبَ وميادينَ لسبق همم النفوس لا يُغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإِثمار، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإِيمان‏.‏

وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى‏.‏ فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 30‏]‏‏.‏

فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإِرشاد فيها على ما يرجى من طيب تُربتِهَا ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة‏.‏

والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحَه لا يُرجى منه صلاح، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحاً تفيد المبادرةُ به، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد استعداداً منه في حين آخر‏.‏

فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا، وأن القرائن قد تَستُر الحقائق‏.‏

وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم يُوحَ إليه فيه، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة‏.‏ وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم ووقوعه، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى، وأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطئ بحسب ما نصبه الله من الأدلة، ولكنه قد يخالف ما في علم الله، وأن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر‏.‏

ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعله يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3‏]‏ إيماء إلى عذر النبي صلى الله عليه وسلم في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه، والمعنى‏:‏ لعله يزّكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشداً حريصاً، وهذه حالة خفية‏.‏

وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله‏:‏ ‏{‏وما عليك ألا يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 7‏]‏ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإِقبال على استجابة المؤمن المسترشد‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فلماذا لم يُعلِم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم‏.‏

قلنا‏:‏ لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة، أو إشعارٍ بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبيء صلى الله عليه وسلم مزية كِلا المقامين‏:‏ مقام الاجتهاد، ومقام الإِفادة‏.‏

وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المهيع من عليِّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها‏.‏

ونظير هذا ما ضَربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر، وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى‏:‏ ‏{‏وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 68‏]‏ ثم قوله له‏:‏ ‏{‏ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح‏:‏ ‏{‏يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ وقوله لإبراهيم‏:‏ ‏{‏لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏

هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العُبوس له، والتولّي عنه، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه‏.‏

والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم‏:‏ «مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله» إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَاننِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما‏:‏ إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية‏.‏

وليس في حال المؤمن ما يفيت إيماناً وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام‏.‏

ومن القواعد المستقرَاةِ من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفيُ الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه‏.‏ وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة‏:‏ ‏{‏فاتقوا اللَّه ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وهو القائل‏:‏ «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع‏.‏ فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار» وهو القائل‏:‏ «أمرت أن أحكم بالظاهر واللَّه يتولى السرائر» وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد‏.‏ فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاءَ نفس وإشراقَ قلب لا يتهيآن له في كل وقت‏.‏

وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيباً عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن‏.‏

وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهرَ اللَّهُ فيها غيْبَ علمه إلا لإِظهار مزية مؤمن راسخ الإِيمان وتسجيل كفر مشرك لا يُرجى منه الإِيمان، مع ما في ذلك من تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما عَلِمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين‏.‏ فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يَستصغر أمثال ابن أم مكتوم، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصَةً من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعاً بين المعاتبة والتعليم، على سنن هدي القرآن في المناسبات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏تلهى‏}‏‏.‏

إبطال وقد تقدم ذكر ‏(‏كلاّ‏)‏ في سورة مريم ‏(‏79 82‏)‏، وتقدم قريباً في سورة النبأ ‏(‏4، 5‏)‏، وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعله يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ولو بالتعريض أيضاً كما في قوله‏:‏ ‏{‏عبس وتولى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإِبطال إلى ‏{‏عبس وتولى‏}‏ خاصة‏.‏

ويجوز أن يكون تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏وما عليك ألاَّ يزكى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 7‏]‏ على التفسيرين، أي لا تظن أنك مسؤول عن مكابرته وعناده فقد بلَّغت ما أمرتَ بتبليغه‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَامٍ‏}‏‏.‏

استئناف بعد حرف الإِبطال، وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإِبطال يثير في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن، أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصَّر في شيء من واجب التبليغ‏.‏

وضمير ‏{‏إنها‏}‏ عائد إلى الدعوة التي تضمنها قوله‏:‏ ‏{‏فأنت له تصدى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ويجوز أن يَكون المعنى‏:‏ أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاماً وإنما يعاتب الحبيبُ حبيبَه‏.‏

ويجوز عندي أن يكون ‏{‏كلا إنها تذكرة‏}‏ استئنافاً ابتدائياً موجهاً إلى من كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه قُبيل نزول السورة فإنه كان يَعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومَن معه، وكانوا لا يستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث، فتكون ‏(‏كلاّ‏)‏ إبطالاً لما نَعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحوِ ذلك‏.‏

فيكون ضمير ‏{‏إنها تذكرة‏}‏ عائداً إلى الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك المجلس ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن‏.‏

ويؤيد هذا الوجهَ قولُه تعالى عَقبه‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ الآيات حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث‏.‏

فكان تأنيث الضمير نكتةً خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني‏.‏

والضمير الظاهر في قوله‏:‏ ‏{‏ذكره‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏تذكرة‏}‏ لأن مَا صَدْقَها القرآن الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرضه على صناديد قريش قُبيل نزول هذه السورة، أي فمن شاء ذكرَ القرآن وعمل به‏.‏

ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الله تعالى فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذِكر معاده في الكلام كثير في القرآن لأن شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن، أي فمن شاء ذكر الله وتوخّى مرضاته‏.‏

والذِكر على كلا الوجهين‏:‏ الذكر بالقلب، وهو توخّي الوقوف عند الأمر والنهي‏.‏

وتعدية فعل ‏(‏ذكر‏)‏ إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام‏.‏

والذي اقتضى الإِتيانَ بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاةُ الفواصل وهي‏:‏ ‏{‏تذكرهْ، مطهرهْ، سفرهْ، بررهْ‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ معترضة بين قوله‏:‏ ‏{‏تذكرة‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في صحف‏}‏‏.‏

والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة ‏{‏إنها تذكرة‏}‏ فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائماً، فالفاء من جملة الاعتراض، أي هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده، أي يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لتذكرة للمتقين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 48‏]‏ ونحوه كثير، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ في سورة الإنسان ‏(‏29‏)‏‏.‏

والتذكرة‏:‏ اسم لما يُتذكر به الشيءُ إذا نُسي‏.‏ قال الراغب‏:‏ وهي أعم من الدلالة والأمارة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين‏}‏ وتقدم نظيره في سورة المدثر ‏(‏49‏)‏‏.‏

وكل من تذكرة‏}‏ و‏{‏ذكره‏}‏ هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الدال في الغالب، أي فمن شاء عمل به ولا ينسه‏.‏

والصحف‏:‏ جمع صحيفة، وهي قطعة من أديم أو وَرَق أو خرقةٌ يكتب فيها الكتاب، وقياس جمعها صحائف، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إلا صُحف، وسيأتي في سورة الأعلى، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه‏.‏

و ‏{‏مطهرة‏}‏ اسم مفعول مِن طَهَّره إذا نظَّفه‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الطهارة المجازية وهي الشرف، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب ‏{‏مُكرمة، مرفوعة، مطهرة‏}‏ محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وتشريفها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ وقُدسِيةِ معانيها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وكان المرادُ بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيسَ، وأكتاف، ولِخاف، وجريد‏.‏

فقد روي أن كتَّاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليباً ويكون حرف ‏(‏في‏)‏ للظرفية الحقيقية ويكون المراد بالسفرة جمع سافر، أي كاتب، وروي عن ابن عباس‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وإنما قيل للكتاب سفر ‏(‏بكسر السين‏)‏ وللكاتب سَافر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال‏:‏ أسفر الصبح، إذا أضاء وقاله الفراء‏.‏

ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل التوراة والإِنجيل والزبور وصحف إبراهيم عليه السلام‏.‏

فتكون هذه الأوصاف تأييداً للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به‏.‏ ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين‏:‏ أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 18 19‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏وإنه لفي زبر الأولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 196‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد بالصحف صحفٌ مجازية، أي ذوات موجودةٌ قدسيةٌ يتلقى جبريل عليه السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها‏.‏ ومعنى ‏{‏مكرمة‏}‏ عناية الله بها، ومعنى ‏{‏مرفوعة‏}‏ أنها من العالم العلوي، ومعنى ‏{‏مطهرة‏}‏ مقدسة مباركة، أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية‏.‏

وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف ‏(‏فَسَفَرة‏)‏ يجوز أن يكون جمع سَافر، مثل كاتب وكتبة، ويجوز أن يكون اسم جمع سَفير، وهو المرسَل في أمر مهم، فهو فَعيل بمعنى فاعل، وقياس جمعه سفراء وتكون ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية، أي المماثلة في المعاني‏.‏

وتأتي وجوهٌ مناسبة في معنى ‏{‏سفرة‏}‏، فالمناسب للوجه الأول‏:‏ أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يكون المراد قراءُ القرآن، وبه فسر قتادة وقال‏:‏ هم بالنبطية القُراء، وقال غيرهم‏:‏ الوراقون باللغة العبرانية‏.‏

وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرّب كما في «الإِتقان» عن ابن أبي حاتم، وقد أغفلها السيوطي فيما استدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرَّب في القرآن أو قَصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها‏.‏

والمناسب للوجه الثاني‏:‏ أن يكون محمله الرسل‏.‏

والمناسب للوجه الثالث‏:‏ أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراءُ بين الله ورسله‏.‏

والمراد بأيْديهم‏:‏ حِفْظهم إياه إلى تبليغه، فمثّل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعُهود‏.‏

وإما أن يراد‏:‏ الرسلُ الذين كانت بأيديهم كتُبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام‏.‏

وإما أن يراد كتَّاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة‏.‏

وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عُثُوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد‏.‏

وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏ فهذا معنى السفرة‏.‏ وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإِسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة ‏{‏سفرة‏}‏ من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام‏.‏

ووصف ‏{‏كرام‏}‏ مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى ‏{‏كراماً كاتبين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ووصف البرَرة ورد صفةً للملائكة في الحديث الصحيح قوله‏:‏ ‏"‏ الذي يقرأ القرآن وهو ماهِر به مع السَفرة الكرام البرَرَة ‏"‏‏.‏

والبررة‏:‏ جمع بَرّ، وهو الموصوف بكثرة البرور‏.‏ وأصل بَرّ مصدر بَرَّ يبَرّ من باب فَرح، ومصدره كالفَرح، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عَدل وقد اختص البررة بجمع بَرّ ولا يكون جمع بارّ‏.‏

والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكةُ والأبرارَ الآدميون‏.‏ قال الراغب‏:‏ «لأن بررة أبلغ من أبرار إذ هو جمع بَرّ، وأبرار جمع بَار، وبَرّ أبلغ من بار كما أن عَدلا أبلغ من عادل»‏.‏

وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثَره في التذكير والإِرشاد، وبرفعة مكانته، وقدس مصدره، وكرم قراره، وطهارته، وفضائل حَمَلَتِه ومبلغيه، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية‏.‏